ما أريكم إلا ما أرى
الزمان : يوم من أيام القرن الثالث عشر قبل الميلاد .
المشهد : المنصة فى عاصمة الرعامسة .. فرعون يقف على المنصة ، و جموع المصريين
محتشدون أمامه .. فرعون ينظر إلى شعبه باستخفاف شديد كوسيلة لإجبارهم على طاعته :
" فاستخف قومه فأطاعوه ( الزخرف 54) " .. الشعب يهتف بكل ما فى حنــــــاجره من قوة : "بالروح ، بالدم نفديك يا فرعون " .. نظرات تعال من فرعون ، ابتسامات استهزاء على شفتيه .
و يبدأ فرعون خطابه موجها إياه إلى الشعب :
" يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى " ......................( القصص آية 28 )
" أنا ربكم الأعلى " ...................................................( النازعات 24 )
" يا قوم أليس لى ملك مصر و هذه الأنهار تجرى من تحتى ، أفلا تبصرون " ( الزخرف 51)
" فاتبعوا أمر فرعون " .............................................. ( هود 97 )
" ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد " .......... ( غافر 29 )
و كان هذا هو الدستور الذى تسير عليه النخبة الحاكمة فى مصر منذ أكثر من ثلاثة و ثلاثين قرنا من الزمان ، قد تتعدل مادة من مواد هذا الدستور ، لكن التعديل لا يخرج عن فلسفة هذه الخطبة التى خاطب بها فرعون قومه .
و فى هذا الحيز لن أتعرض إلا إلى المادة الأخيرة فى هذا الدستور الفرعونى العتيد : " ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد " .
· ظل هذا المبدأ يتحكم فى العقلية المصرية منذ ذلك التاريخ القديم ، فكل الأمور إنما تعبر عن رأى الحاكم الحكيم ، الذى يرى ، و لا غيره يرى ، و قد تبدى هذا المبدأ فى مقولة كان يتزلف بها كل صاحب نفوذ فى مصر ، إذ يذيل حديثه بمقولة شهيرة : " حسب توجيهات السيد الرئيس " .. و أعتقد أن هذه الكلمة قد زالت من تزلفات المسئولين حاليا ليحل محلها : "تنفيذا لبرنامج السيد الرئيس" .
· سارت قضية " ما أريكم إلا ما أرى " جنبا إلى جنب مع التاريخ المصرى ، حتى أتت الفترة التالية للغزو البريطانى لمصر (1882) ، فظهرت الشخصية المصرية الحقيقية التى ناضلت بالكلمة و الكفاح المسلح أحيانا ضد المستعمر ، وجدنا الفكر المصرى الحر ، فتشعبت الأفكار و ظهرت الأحزاب المختلفة المشارب : الوطنى بزعامة مصطفى كامل ثم رفيقه محمد فريد، و الأمة الذى تزعمه بعد فترة من إنشائه أحمد لطفى السيد .. و تعددت الصحف التى تعبر عن مختلف الآراء : اللواء للحزب الوطنى ، الجريدة لحزب الأمة .. و تنوعت الآراء ، و تعددت الأفكار .
· و جاءت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لتقوم بعدها ثورة 1919 التى كانت تعبيرا عما يختلج فى صدور الأمة من آمال ، و ليقوم حزب الوفد بقيادة سعد زغلول باشا ليقود حركة الجهاد حتى تنال مصر استقلالها بمقتضى تصريح فبراير 1922 و تدخل عضوا فى عصبة الأمم (التى كانت لا تقبل فى عضويتها إلا الدول المستقلة )
· و تتنوع الأحزاب : الأحرار الدستوريون ، السعديون ، مصر الفتاة ، الكتلة .. إلخ تعبيرا عن تنوع الأفكار و الاتجاهات .
· و إلى جوار التنوع فى الحياة السياسية ، تنوعت الحيوات الفكرية و الثقافية (أحمد لطفى السيد ، طه حسين ، العقاد ، توفيق الحكيم ، سلامة موسى .. إلخ ) و الفنية ( سيد درويش ، محمد عبد الوهاب ، أم كلثوم ، زكريا أحمد ، السنباطى ، محمد القصبجى .. إلخ) ...
· و فى خضم هذه التموجات السياسية و الفكرية – التى يسميها البعض بالفترة الليبرالية ، نسى المصريون مقولة : " ما أريكم إلا ما أرى " .
· و جاءت ثورة يوليو – و تحت شعارات براقة – أعادت المقولة "ما أريكم إلا ما أرى " إلى وضعها الذى كان المصريون – أو كادوا أن ينسونها .. فعدنا مرة أخرى إلى الرأى الواحد و المفكر الأوحد ، و ساد الفكر الشمولى : التنظيم السياسى الواحد ، و أممت الصحافة ، و رمى كل ذى رأى خارج عن مبدأ الحاكم بالزيغ و الرجعية ...... و افتتحت المعتقلات لاستقبال كل ذى رأى حر ، و ابتكرت أساليب تكنولوجية حديثة للتعذيب ، فماتت حرية الرأى ..
· حدثت انفراجة طفيفة فى عصر السادات .. لكن الأمر وصل إلى اعتقالات سبتمبر !!
· و الآن : فالمبدأ السائد : " قل ما شئتَ (بفتح التاء) ، و افعل ما شئتُ (بضم التاء) .. و لقد حلت هذه المادة الجديدة محل المادة الفرعونية " ما أريكم إلا ما أرى "
· أسوأ ما فى الأمر أن المشكلة قد تعدت الحياة السياسية إلى الحياة الثقافية : انظر إلى اثنين يتحاوران ؟ .. كل منهما ينظر إلى رأيه على أن الصواب و يحاول أن يقول لمحاوريه : " ما أريكم إلا ما أرى " .. ثم ينتقل الاختلاف إلى خلاف تتطاير فيه الشتائم و التهكمات .
· أرجو من مثقفينا أن يتأملوا قول :
* الإمام الشافعى – رحمه الله –" رايى صواب يحتمل الخطأ ، و رأى غيرى خطأ يحتمل الصواب " .
*الفرنسى فولتير : " إننى أخالفك الرأى ، و لكنى مستعد أن أضحى بحياتى فى سبيل حقك فى إبداء رأيك " .
إذن فلنختلف ، فإن فى الاختلاف إثراء للحياة ، و تجديد للفكر .. و لكن لا نتخالف فنتفرق فتكون النهاية .
شكرا لصبركم على قراءة مقالتى هذه .
مصطفى سلام
No comments:
Post a Comment