Wednesday, January 27, 2010

اللامنتمى

اللامنتمى



قبل عام 1952 كانت مصر تموج بالعديد من التيارات السياسية ، المتنافسة أحيانا ، المتصارعة أحيانا ، و لكنها فى الأغلب الأعم منها كانت تضخ فى عروق الشباب دما دافقا حارا مستعدا أن يراق من أجل مصر ..

أذكر – حين كنت تلميذا بالمدرسة الابتدائية – أنا كنا نقف فى طابور الصباح ، و كان النشيد المقررعلينا إنشاده هو :

اسلمى يا مصر إننى الفدا

ذى يدى إن مدت الدنيا يدا

و معى قلبى و عزمى للجهاد

و لقلبى أنت بعد الدين دين

لك يا مصر السلامة

و سلاما يا بلادى

إن رمى الدهر سهامه

أتقيها بفؤادى

و اسلمى فى كل حين

و لقد كنا نتبارى فى إخراج الكلمات من القلب قبل الصراخ بها بالحناجر و الألسنة .. و كنا نحفظ عن ظهر قلب ترنيمات كبار الشعراء المتغنين بمصر : شوقى و حافظ و غيرهما ، و كنا نتخذ من الزعماء العظام ُمثلا و قدوات : فهذا يحتذى بسعد باشا زغلول ، و ذاك قدوته النحاس باشا ، أما أنا فقد كان مصطفى باشا كامل يمثل بالنسبة لى القدوة و المثل الأعلى .. لقد كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب ، و أتغزل فى صورته التى كانت تزين كتب التاريخ .. لقد كان جلدى يقشعر حين أقرأ له : لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا ، لا يأس مع الحياة و لا حياة مع اليأس ، بلادى بلادى : لك حبى و فؤادى ، لك كيانى و وجودى .. فأنت أنت الحياة ، و لا حياة إلا بك يا مصر .

لم أكن فى ذلك بدعا بين زملائى .. فكلنا كان كذلك : يجرى فى عروقه حب جارف لمصر و هوى رائع للكنانة .

و كنا نخرج فى المناسبات – رغم صغر سننا – ننادى بسقوط الاستعمار , و الحرية لمصر ..

لم يكن الشباب وحده أيضا بدعا فى ذلك ، دعونى أذكركم بحفلة لكوكب الشرق أم كلثوم فى الأربعينات ، و كانت تغنى رائعة أحمد شوقى ( سلوا قلبى غداة سلا و تابا ) .. و حين وصلت إلى قوله : " و ما نيل المطالب بالتمنى .. و لكن تؤخذ الدنيا غلابا ) .. آنذاك ، ترك عشاق الطرب معشوقتهم ليخرجوا إلى الطريق هاتفين بحياة معشوقتهم العظمى : مصر , يهتفون لها بالحياة و الحرية و سقوط الاستعمار .

كان عشقا من نوع خاص .. و لقد صدق الشاعر حين قال :

كم ذا يكابد عاشق و يلاقى .. فى حب مصر كثيرة العشاق

و تمر السنين , و يقوم الجيش بحركته .............

و حدث انقلاب على الديمقراطية ، و نشب خلاف بين الرئيس الراحل محمد نجيب و بين مجموعة من الضباط و على رأسهم جمال عبد الناصر بخصوص مسألة الديمقراطية التى كان يناصرها نجيب و معه مجموعة قليلة من الضباط ... و كنت آنذاك فى بدايات الدراسة بالمدرسة الثانوية

فقمنا نحن طلاب المدرسة بمظاهرة نؤيد فيها الديمقراطية ، و لكن لم نكد نخرج من باب المدرسة حتى تلقانا البوليس المصرى (!) بهراواته و كرابيجه ، فتلقينا على يديه علقة ساخنة كانت لنا درسا أنسانا فكرة إبداء الرأى .

و تمر السنون ، تسلب فيها إرادتنا ، و يغيّب فيها وعينا بواسطة البراعة التى أدير بها الإعلام فى تلك الفترة التى لم نعد نرى فيها إلا ما يرى الزعيم ، و لا نقتنع إلا بكل ما يتفوه به الزعيم ، أقول لكم قولا سخيفا : لقد تعلمنا فى ذلك الحين أن نصفق للزعيم أينما يكون ، حتى حين يحضر للصلاة فى المسجد ، كانت الأكف – بدلا من التضرع إلى الله – تلتهب تصفيقا لزعيم الأمة العربية ، و يتوقف قارئ القرآن عن القراءة ....... الخ

و تمر السنون : و تقع الكارثة : الهزيمة المهينة لمصر و العرب سنة 1967 ، و كنت آنذاك معلما للفلسفة بإحدى المدارس الثانوية ، و رغم اليأس و القنوط الذى ساد المجتمع كله آنذاك ، و رغم فقدان الثقة فى النظام كله ، إلا أننا – مجموعة من الأساتذة بالمدرسة – قررنا أن نواجه الكارثة حسب ما نستطيع ، فكوّّنّـا جماعة سميناها " فى حب مصر " تضم أساتذة للتاريخ و الجغرافيا و الأدب و الفلسفة .. و قررنا أن نعيد الثقة فى حبيبتنا مصر و ننتشل الشباب من حالة اليأس التى انتابته ... و كانت وسيلتنا فى ذلك الإذاعة المدرسية و المجلات الحائطية و الملصقات ، و إقامة المحاضرات و الندوات و دعوة الضيوف من خارج المدرسة للحوار مع الطلاب ... كل ذلك حبا فى مصر و عشقا لها .. رغم المصيبة .

كانت أجيالا عاشقة لمصر .. مستعدة لبذل الروح و الدم – حقيقة لا هتافا – من أجلها .... أجيال منتمية .

أريدك – صديقى القارئ – أن تمسك بترمومتر الوطنية ، و تقيس به درجة الانتماء الموجود الآن لدى المصريين فى كافة الأعمار ، أرجوك أن تدلنى : هل ما زالت درجة الانتماء على ما هى عليه ؟ .. و إن كانت قد هبطت : أتمنى منك أن تدلنى على الأسباب .

و لك منى كل التقدير

و تحيا مصر


مصطفى سلام

No comments:

Post a Comment