أم كلثوم و أنا
فى يوم لا أذكره , فقد تاه فى الزمان , و عفت عليه الأيام , كنت جالسا لطعامى , أزدرده ازدرادا , و على رف بالحائط يصدح المذياع بأغنية لا تثير لدى أى معنى , و لا تبعث فى نفسى أى دفء , و لا فى قلبى أى صدى .. هى أغنية سهران لوحدى للست.. مستمر فى تناول الطعام .. و هى مستمرة فى الغناء .. لا آبه لها !! حتى إذا وصلت إلى قولها : حتى الجفا محروم منه !!!! .. هنا توقف الطعام فى فمى , أو توقفت أنا عن الطعام .. ( حتى الجفا محروم منه ؟!! )
يا خبر زى بعضه !! حتى الجفا محروم منه !! أمّـال يبقى فاضل إيه ؟! . بدأت أصيخ السمع إلى ما تبقى من الأغنية. و بدأ الوجيب فى القلب , و الانتعاش فى الصدر و السمو فى الروح ... بدات مرحلة جديدة فى حياتى .. لقد انتهت المرحلة القبلثومية prethoumic period و بدأت المرحلة البعدثومية postthoumic period فى حياتى !!!!
و بدأت متابعة الست .. أبحث عنها فى المذياع , و أذهب إليها فى كل إذاعة .. و تحضرنى فى هذه المناسبة أن المذياع الخاص بنا قد سقط من فوق الرف فلقى حتفه , و إذ بى أسمع – و كان ذلك فى شبابى الباكر – صوت الست ينساب ضعيفا من مذياع الجيران , فما كان منى – عفوا – إلا أن رقدت على البلاط و ألصقت أذنى بالأرض لأستمع إليها من مذياع الجيران , و ظللت هكذا حتى انتهت ثومة من الغناء .
و قد كنا – شلة الأصدقاء – ننتظر الست الخميس الأول كل شهر – فنقيم فى منزل أحدنا عشاء فاخرا نلتهمه فى فترة الاستراحة .. و كانت شوارع القاهرة فى ذلك اليوم تخلو تماما من روادها,
إنه عيد شهرى قالت عنه إحدى الصحف الأجنبية إن الشوارع فى كل العالم العربى فى ذلك اليوم – و ليس فى القاهرة وحدها – كانت تخلو من المارة .. و قال آخرون : إن العرب لا يجتمعون على شئ إلا على حب أم كلثوم !!
حين غنت أم كلثوم أغنيه السحاب ( ا نت عمرى ) فى 5 فبراير 1964 كنت خارج القاهرة , و استمعت إليها حيث كنت , و فى اليوم التالى عدت إلى القاهرة , و بينما كنت أسير فى شارع عماد الدين , إذا بمحل صغير يذيع من جهاز تسجيل (بَكر حيت لم يكن الكاسيت أو السى دى بلاير.. قد ظهرا إلى الوجود بعد ) .. و وقفت فى الطريق أستمع , و إذا بحشد هائل من الناس قد التفوا حول المحل .. يتكاثر الناس و يتدافعون بالأكتاف لينالوا مكانا أفضل يستمعون منه إلى الست .
خاف صاحب المحل !!! خشى الندخل الأمنى , فقد كانت القبضة الأمنية فى ذلك العصر فى أشد عنفها و عنفوانها .. فأغلق جهاز التسجيل .. و بدأ الناس يتفرقون آسفين .
قال عنها طه حسين : " لقد ساهمت فى إثبات جمال اللغة و طواعية موسيقاها , و كان لها فضل فى انتشار الشعر العربى على ألسنة العامة و الخاصة "
و قال عنها العقاد : " أيها الكوكب الذى أسعد الأرض باللقاء .. أنت كالشمس لا تعدد فى السماء"
و قال عبد الوهاب : " إن أم كلثوم ( تكلثم ) اللحن فتزيده جمالا على جمال "
و عنها أبدع أحمد شوقى قصيدته : " سلوا كئوس الطلا .. "
هذه هى الست , تلك هى العظمة , إنها كانت جامعة كان من بين كلياتها الأحمدان :
شوقى و رامى , و بيرم .. , و رياض السنباطى وزكريا أحمد ...... و آخرون كثر ) .
و لقد كانت الست تتميز بخفة دم و سرعة بديهة متناهية .. أذكر فى حفلها الذى أقامته بباريس أن هجم عليه أحد الجزائيين ليقبل قدمها , فتدافع الناس ليخلصوها منه .. و كانت تغنى الأطلال : هل رأى الحب سكارى مثلنا ... فحولتها بخفة دم إلى : هل رأى الحب سكارى مثله !!!!!!!!!!!!
لقد افتقدنا بفقدها الجمال و الذوق و أشياء أخرى رائعة .
مصطفى سلام
أم كلثوم و أنا (2)
حلم لم يتحقق
فى مطلع الستينات من القرن الماضى – العشرين – و كان العـــمر فى مقتبله , و العواطف حارة , و الإنفعالات متأججة .. تقع هذه الذكريات .
كنت أعمل فى وظيفة يدخل إلىّ منها كل شهر دخل يبلغ إثنى عشر جنيها ( اللهم لا حسد و ما تقروش علىّ !! فقد كان هذا المبلغ يساوى اليوم 1200 جنيه ) , كنت أدفع منه إيجارا لسكنى قدره خمسة جنيهات و يتبقى لى سبعة جنيهات كانت تكفل لى حياة طيبة , لا هى بالمرفهة و لا هى بالبائسة !!!!!
كنت فى ذلك الحين أعشق أمرين : الفلسفة التى كنت قد انتهيت من دراستها فى الجامعة , أم كلثوم !!
و بالنسبة للأولى فقد كان هناك دراسات عليا فيها , و كان هناك مورد لا ينضب للمعرفة يرتاده كل من أراد أن يغترف منها و يتزود بها .. و هو سورحديقة الأزبكية الذى كان يضم كل ما هو عال و سام و رفيع فى كل ألوان المعرفة .. ( كان الكتاب بقرش و بقرشين , و يوم ما يتمعظم بخمسة !!) و أذكر أنى قد ا قتنيت فى ذلك الحين مجموعة ضخمة من السلسلة الفرنسية ( الكلاسيكيات للجميع Les Classiques Pour Tous وتضم أعظم الأعمال لأعظم المبدعين : محاورات أفلاطون , ديكارت , باسكال .. إبداعات كورنى و راسين و موليير و فولتير و غيرهم كثير .. و كان ثمن الكتاب ( فقط واحد قرش صاغ مصرى لا غير) – طبعا أجيالنا الحالية لا يعرفون ما هو القرش , لذا أقول لهم إن الجنيه كان يحتوى على 100 قرش !! ... إ يييييييه دنيا ؟!!!
و بالنسبة للعشق الآخر – الست – فبالرغم من أنه لم يفتنى سماع أى من حفلاتها , و كثيرمما تيسر لى مما كان يذيعه المذياع لها , فلقد كان لى شوق و ولع بأن أحضر حفلة من حفلاتها , و لكن : كيف ؟ لم يكن يتبقى من المرتب شئ لتنفيذ هذا المأرب . و فى لحظة عزيمة قررت أن أدخر من مرتبى خمسين قرشا شهريا حتى يكتمل لدى مبلغ خمسة جنيهات ثمن تذكرة فى أعلى التياترو (المسرح) .. أبعد نقطة عن خشبة المسرح .
و لكن حدث ما لم يكن فى الحسبان , فقد عينت فى وظيفة أرقى فى إحدى محافظات الصعيد بمرتب قدره ستة عشر جنيها إلا خمسة عشر قرشا ( بلاش قر !! ) و بالرغم من إمكانية توفير الجنيهات الخمسة من هذا المرتب – حتى و لو بالتقسيط - إلا أنى لم أستطع حضور أى من حفلاتها , فقد كنت لا أستطيع الحصول على أجازة إلا فى أشهر الصيف .. موعد أجازة أم كلثوم من الغناء !!!
كان فى هذه المدينة (قهوة ) اعتادت أن تذيع أغنيات أم كلثوم يوميا .. و كانت تبعد عن منزلى مسافة ثلاثة كيلومترات .. كنت أقطعها سيرا على الأقدام عادة , أو ممتطيا (حنطور) بخمسة قروش !!
فأجلس فى حديقة هذه القهوة التى كانت تطل على النيل مباشرة و أستمع و أستمتع .. و أذكر مرة كنت أجلس مع بعض الأصدقاء فى تلك الحديقة .. و إذا بالست تترنم : و الناى على الشط غنى و القدود بتميل على هبوب الهوا .... و لم تكن هناك قدود تميل و لكن دموع تسيل ...... بادرنى الأصدقاء بمواساتى كعاشق ولهان هجرته الحبيبة !!! و لكن لم يكونوا يعلمون أنه الاستمتاع بالنهر و اللحن و الصوت .. استمتاع بالجمال .
ثم أعرت إلى بلد عربى شقيق .. و ارتفع الدخل ارتفاعا ممتازا ( ما يعادل 200 جنيه فى الشهر!! .. قروا بقى زى مانتو عايزين !!!) , و قررت أن أحضر لأم كلثوم حفلة من حفلاتها بعد عودتى إلى الحبيبة مصر ... و لكن .. أتت الرياح بما لا تشتهى السفن ............ ماتت أم كلثوم .
لا تتخيلوا كم بكيت عليها فى غربتى !!!
و كان أول ما فعلته حين عدت إلى الوطن أن ذهبت إلى مستقرها و ألقيت عليها السلام و قرأت الفاتحة على روحها الطاهرة .
و كان الكاسيت قد ظهر .. فبدأت و كونت مكتبة كلثومية يدهش لها كل من يراها , عوضا عن المشاهده .
فى حفل أقيم بالنادى الأهلى فى سبتمبر 1944 – و كانت تغنى ( يا ليلة العيد آنستينا ) .. و هى من فيلم دنانير الذى عرض يوم 29 سبتمبر 1939- و كانت كلمات فى الأغنية تقول :( يعيش هارون يعيش جعفر .. أى هارون الرشيد و وزيره جعفر البرمكى ) .. فى هذه اللحظة دخل الملك فاروق – رحمه الله – إلى الحفل , و فى التو و اللحظة غيّرت أم كلثوم الكلمات إلى : ( يعيش فاروق و يتهنى و نحيي له ليالى العيد !!!) .. منتهى اللباقة و سرعة البديهة .. و هنا أنعم عليها فاروق بنيشان الكمال ...
( نيشان الكمال عند السيدات يتبعه مناداتها بصاحبة العصمة .. و هو يساوى درجة الباشوية عند الرجال , حيث ينادى صاحبه : بـ صاحب السعادة ) ..
لقد كانت الشموخ كله , و العزة كلها .
رحمها الله رحمة واسعة و أسكنها فسيح جناته , و إلى ملتقى قريب آخر إن شاء الله .
مصطفى سلام
لقاء السحاب
(الست و الأستاذ )
(1)
قدمت أم كلثوم إلى القاهرة عام 1923 قادمة من طماى الزهايرة مركز السنــــبلاوين , و لكن محمد عبد الوهاب – الذى بدأ مشواره الفنى متزامنا مع أم كلثوم – كان قاهرى المـــــولد و النشأة . فقد ولد فى حى باب الشعرية لأب هو (عبد الوهاب محمد الشعرانى ) .
سار النجمان كل يشق طريقه وسط المصاعب و الأهوال , فى جو ملئ بالفن الفاضح الرخيص الملئ بالإشارات و الإيحاءات الجنسية المفزعة , لكن أصالة الريف فى الست و أصالة أبناء البلد فى الأستاذ نأيا بهما عن الخوض فى هذا البحر الصاخب الأمواج .
كانا متوازيين – و المتوازيان لا يلتقيان – و لكن كانت تربطهما علاقات ود و صداقة ,
كان يزورها و ُيسمعها و َيسمع منها , و لكن .. كل له لونه الخاص , فى منافسة شريفة خلاقة – لم تكن معروفة فى تلك الأيام.
و انقسم ا لناس فى ثلاثينيات القرن الماضى ( العشرين ) إلى حزبين : الحزب الكلثومى و الحزب الوهابى !! .
و العجيب أن لقاء السحاب فى (انت عمرى ) لم يكن المرة الأولى التى يلتقيان فيها فنيا – رغم تباعد اللونين الكلثومى و الوهابى – فقد كانا يشتركان فى الغناء فى الجلسات الخاصة و فى المنتديات الفنية .. و فى إحدى هذه الجلسات الخاصة التى تمت فى منزل الأستاذ على خيرت بالسيدة زينب , كان كلاهما مدعوا , فتقدم الأستاذ على خيرت إليهما برجاء أن يغنيا سويا .. فأمسك عبد الوهاب بعوده و أخذ يعزف لحنا لسيد درويش من أوبريت العشرة الطيبة .. و أخذ ت الست تغنى و هو يشاركها الغناء :
على قد الليل ما يطّول
حترضى بسهرى و بنوحى
و لقد كان للصحفى المشهور محمد التابعى فيللا فى راس البر و كانت ملتقى المشاهير , و كان لهما لقاءات غنائية فيها , إلى أن دعاهما الجراح المعروف عبد الوهاب باشا مورو- فى الأربعينيات - إلى بيته و كان من بين المدعوين كبار الأدباء و الفنانين , من بينهم الشاعر خفيف الظل كامل الشناوى , فكتب الشناوى – فى التو- متغزلا فى الفنانة كاميليا – التى كانت حاضرة الجلسة
لست أقوى على هواك و مالى
أمل لديك فارأف بحالى
إن بعض الجمال يذهل عقلى
عن ضلوعى فكيف كل الجمال
و اقترح فكرى أباظة – الذى كان حاضرا – أن يقوم عبد الوهاب بتلحين هذه الأبيات , و أن تقوم أم كلثوم بغنائها ....... و قد كان .
أما لقاء السحاب – انت عمرى – فلى معه لقاء آخر .
مصطفى درويش سلام
لقاء السحاب
(2)
إنت عمرى
لقاء السحاب – أو إن شئت فقل لقاء فوق السحاب – هو أول لقاء فنى علنى بين الســـت و الأستاذ : أم كلثوم و عبد الوهاب .. و قد كان ذلك فى 5 فبراير 1964.
كان جمال عبد الناصر من أكبر عشاق فن أم كلثوم , و كان أيضا من أكبر مقدرى فن عبد الوهاب , فلا شك أن كليهما قمة لأكبر هرمين فى مصرو العالم العربى : هــــــــرم الغناء الكلثومى , و هرم الموسيقى الوهابى .
حين عانت أم كلثوم من حماقة أحد الضباط الأحرار – الذى كان مشرفا على الإذاعة فأمر بمنع أغانيها بالإذاعة – بادر عبد الناصر باستدعاء هذا الضابط و أنبه , و عادت الست إلى قمة هرمها .
و لقد أنعم عبد الناصر على كلا الهرمين بأرفع الأوسمة .
و فى أحد أعياد الثورة – قال عبد الناصر للقطبين : متى نسمع لحنا لعبد الوهاب تغنيه أم كلثوم ؟! .. فوعداه بتحقيق هذه الأمنية .. لكن !!!
و فى العيد التالى التقى بهما عبد الناصر كالعادة فى مثل هذه الأعياد استفسر عن الوعد الذى قطعاه على نفسيهما : لم لم ينفذاه ؟!!! – و قال لهما " لن أغفر لكما عدم اشترككما فى عمل فنى حتى الآن .. أين مجنون ليلى التى سمعت أنك تلحنها لها ؟ " .. و قال المشير عبد الحكيم عامر الذى كان حاضرا اللقاء : " المهم أى عمل فنى تشتركان فيه " .. فقالت الست " أنا جاهزة لأغنى أى لحن لعبد الوهاب " .. لقد كانت مترددة فى قبول الغناء لعبد الوهاب لأسباب منها اختلاف الألوان .
بعد فترة من الزمن .. قام أحمد الحفناوى – عازف الكمان الشهير – بزيارة عبد الوهاب فى بيته , فسمع عبد الوهاب يدندن بأغنية من تأليف الشاعر أحمد شفيق كامل :أغنية انت عمرى .. فذهب إلى أم كلثوم بهذا الخبر , فقامت الست بالاتصال بالأستاذ بالتليفون و طلبت السماع !!...
و كان اللقاء الذى طالما اشتاقت إليه الجماهير و تمناه العشاق و ظمأت إليه القلوب و الأسماع .
و هكذا – كما كان لعبد الناصر الفضل فى تأميم قناة السويس و بناء السد العالى , فقد كان له الفضل فى الجمع بين القمتين فى عمل سيظل التاريخ يذكره .
يقول عبد الوهاب عن ذلك اللقاء : " أول ما لحنت لأم كلثوم كنت كمن يزور عاصمة غريبة جميلة يسمع عنها و لا يعيشها ".
أبدع عبد الوهاب و أبدعت كوكب الشرق , و أحدثت الأغنية ثورة عارمة فى الوجدان العربى و فى عالم الغناء .. تحدثت الصحف و تكلم الناس و لم ينقطع الحديث ..
و مما جاء فى الأهرام : " فشلت محاولات رجال المرور فى تفريق الجمهور الذى احتشد عى ناصية شارعى مسرة و شبرا , يستمع إلى الأغنية من ميكروفون استأجره تاجر خردوات سجل الأغنية على شريط " ( أعتقد لأن رجال المرور أنفسهم وقفوا يستمعون !!)
و جاء فى الأهرام أيضا : " دمشق تلغى نشرة الأخبار و تذيع الأعنية " ....
و بدأ التعاون – بعد المنافسة – الذى أثمر عشر أغنيات .. كان آخرها : ليلة حب و غنتها فى 7 ديسمبر 1972.
و فى يوم حزين – 3 فيراير 1975 – انطفأت الشمس .. ماتت أم كلثوم .. و ما تزال الدموع فى المآقى حزنا على فراقها .
فى هذا اليوم اقرأوا جميعا الفاتحة على روحها الطاهرة .
مصطفى درويش سلام
No comments:
Post a Comment