اللامنتمى
قبل عام 1952 كانت مصر تموج بالعديد من التيارات السياسية ، المتنافسة أحيانا ، المتصارعة أحيانا ، و لكنها فى الأغلب الأعم منها كانت تضخ فى عروق الشباب دما دافقا حارا مستعدا أن يراق من أجل مصر ..
أذكر – حين كنت تلميذا بالمدرسة الابتدائية – أنا كنا نقف فى طابور الصباح ، و كان النشيد المقررعلينا إنشاده هو :
اسلمى يا مصر إننى الفدا
ذى يدى إن مدت الدنيا يدا
و معى قلبى و عزمى للجهاد
و لقلبى أنت بعد الدين دين
لك يا مصر السلامة
و سلاما يا بلادى
إن رمى الدهر سهامه
أتقيها بفؤادى
و اسلمى فى كل حين
و لقد كنا نتبارى فى إخراج الكلمات من القلب قبل الصراخ بها بالحناجر و الألسنة .. و كنا نحفظ عن ظهر قلب ترنيمات كبار الشعراء المتغنين بمصر : شوقى و حافظ و غيرهما ، و كنا نتخذ من الزعماء العظام ُمثلا و قدوات : فهذا يحتذى بسعد باشا زغلول ، و ذاك قدوته النحاس باشا ، أما أنا فقد كان مصطفى باشا كامل يمثل بالنسبة لى القدوة و المثل الأعلى .. لقد كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب ، و أتغزل فى صورته التى كانت تزين كتب التاريخ .. لقد كان جلدى يقشعر حين أقرأ له : لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا ، لا يأس مع الحياة و لا حياة مع اليأس ، بلادى بلادى : لك حبى و فؤادى ، لك كيانى و وجودى .. فأنت أنت الحياة ، و لا حياة إلا بك يا مصر .
لم أكن فى ذلك بدعا بين زملائى .. فكلنا كان كذلك : يجرى فى عروقه حب جارف لمصر و هوى رائع للكنانة .
و كنا نخرج فى المناسبات – رغم صغر سننا – ننادى بسقوط الاستعمار , و الحرية لمصر ..
لم يكن الشباب وحده أيضا بدعا فى ذلك ، دعونى أذكركم بحفلة لكوكب الشرق أم كلثوم فى الأربعينات ، و كانت تغنى رائعة أحمد شوقى ( سلوا قلبى غداة سلا و تابا ) .. و حين وصلت إلى قوله : " و ما نيل المطالب بالتمنى .. و لكن تؤخذ الدنيا غلابا ) .. آنذاك ، ترك عشاق الطرب معشوقتهم ليخرجوا إلى الطريق هاتفين بحياة معشوقتهم العظمى : مصر , يهتفون لها بالحياة و الحرية و سقوط الاستعمار .
كان عشقا من نوع خاص .. و لقد صدق الشاعر حين قال :
كم ذا يكابد عاشق و يلاقى .. فى حب مصر كثيرة العشاق
و تمر السنين , و يقوم الجيش بحركته .............
و حدث انقلاب على الديمقراطية ، و نشب خلاف بين الرئيس الراحل محمد نجيب و بين مجموعة من الضباط و على رأسهم جمال عبد الناصر بخصوص مسألة الديمقراطية التى كان يناصرها نجيب و معه مجموعة قليلة من الضباط ... و كنت آنذاك فى بدايات الدراسة بالمدرسة الثانوية
فقمنا نحن طلاب المدرسة بمظاهرة نؤيد فيها الديمقراطية ، و لكن لم نكد نخرج من باب المدرسة حتى تلقانا البوليس المصرى (!) بهراواته و كرابيجه ، فتلقينا على يديه علقة ساخنة كانت لنا درسا أنسانا فكرة إبداء الرأى .
و تمر السنون ، تسلب فيها إرادتنا ، و يغيّب فيها وعينا بواسطة البراعة التى أدير بها الإعلام فى تلك الفترة التى لم نعد نرى فيها إلا ما يرى الزعيم ، و لا نقتنع إلا بكل ما يتفوه به الزعيم ، أقول لكم قولا سخيفا : لقد تعلمنا فى ذلك الحين أن نصفق للزعيم أينما يكون ، حتى حين يحضر للصلاة فى المسجد ، كانت الأكف – بدلا من التضرع إلى الله – تلتهب تصفيقا لزعيم الأمة العربية ، و يتوقف قارئ القرآن عن القراءة ....... الخ
و تمر السنون : و تقع الكارثة : الهزيمة المهينة لمصر و العرب سنة 1967 ، و كنت آنذاك معلما للفلسفة بإحدى المدارس الثانوية ، و رغم اليأس و القنوط الذى ساد المجتمع كله آنذاك ، و رغم فقدان الثقة فى النظام كله ، إلا أننا – مجموعة من الأساتذة بالمدرسة – قررنا أن نواجه الكارثة حسب ما نستطيع ، فكوّّنّـا جماعة سميناها " فى حب مصر " تضم أساتذة للتاريخ و الجغرافيا و الأدب و الفلسفة .. و قررنا أن نعيد الثقة فى حبيبتنا مصر و ننتشل الشباب من حالة اليأس التى انتابته ... و كانت وسيلتنا فى ذلك الإذاعة المدرسية و المجلات الحائطية و الملصقات ، و إقامة المحاضرات و الندوات و دعوة الضيوف من خارج المدرسة للحوار مع الطلاب ... كل ذلك حبا فى مصر و عشقا لها .. رغم المصيبة .
كانت أجيالا عاشقة لمصر .. مستعدة لبذل الروح و الدم – حقيقة لا هتافا – من أجلها .... أجيال منتمية .
أريدك – صديقى القارئ – أن تمسك بترمومتر الوطنية ، و تقيس به درجة الانتماء الموجود الآن لدى المصريين فى كافة الأعمار ، أرجوك أن تدلنى : هل ما زالت درجة الانتماء على ما هى عليه ؟ .. و إن كانت قد هبطت : أتمنى منك أن تدلنى على الأسباب .
و لك منى كل التقدير
و تحيا مصر
مصطفى سلام
No comments:
Post a Comment