اللغة العربية
اللغة ترتبط ارتباطا وثيقا بالحضارة ، و يسرى عليها ما يسرى على الحضارة من تقدم أو تقهقر .. و لقد ذكر ابن خلدون فى مقدمته أن الحضارة تمر فى تطورها بمنحنى ناقوسى ، بمعى أنها نبدأ بداية متواضعة ، ثم تتقدم إلى أعلى .. فأعلى حتى تصل إلى أعلى مستوى يمكن لها أن تصل إليه (التقدم) ، ثم تبدأ فى الهبوط نحو القاع (التخلف) .. إلى أن يقيض الله لها من يبدأ الناقوس من أوله – أقصد يبدأ النهوض من جديد .
و بما أن اللغة تعبير صادق عن الحياة الحضارية و مرآة لها ، بل و أداتها الرئيسية ، لذا ينطبق عليها ما ينطبق على الحضارة من تقدم أو تخلف .
و لقد كانت اللغة العربية فى الجاهلية قمة فى البلاغة و الجزالة ، رغم التخلف الحضارى الذى كان عليه العرب فى جاهليتهم ، و إنما كان ذلك راجعا إلى صفاء الذهن الذى كانوا يتمتعون به آنذاك نتيجة لصفاء الطبيعة البدائية التى كانوا يعيشون فيها ، فكانت العربية رائقة صافية جزلة معبرة عن الحياة و شئونها فى الجاهلية ، مما دفع أديبا هو الجاحظ كى يقول إن الشعر ديوان العرب .. فهو المؤرخ لحياتهم و الراوى لأيامهم .
أما فى الإسلام .. فقد كانت اللغة قمة فى البلاغة و الفصاحة ، و كان القرآن الكريم تحديا لأولئك البلغاء الفصحاء ، حتى قال قائلهم : ".. إن أعلاه لمثمر ، و إن أسفله لمغدق ، و إنه ليس من قول البشر ، و إنه يعلو و لا يعلى عليه .."
و فى العصور التالية – عصور ازدهار الحضارة الإسلامية – الأموية و العباسية – سمت اللغة – فى قوتها و بلاغتها – إلى عنان السماء ، و ظهر علماء اللغة و أساطينها و واضعو علومها : فهذا الأسود الدؤلى ، و ذاك الخليل بن أحمد ، هذا سيبويه ، و ذاك الكسائى ، و ظهرت الموسوعات اللغوية ، الجرجانى ، الجاحظ ، ابن حيان ... الخ .
ثم تدهورت الحضارة الإسلامية .. خاصة حين غزا العثمانيون العالم الإسلامى .. فبدأت مرحلة السُــبات (النوم) فى اللغة ، و انحطت إلى درك أسفل من الانحطاط ...
و الذى يقارن بين إنتاج هذه الفترة العثمانية و إنتاج ما سبقها ، ليصيبنه الأسى حتما على ما آل إليه حال اللغة من شعر و نثر و ما إلى ذلك فى هذه الفترة .
لكن اللغة العربية بدأت فى البزوغ مرة أخرى على أيدى فطاحل أفذاذ ، و شعراء بارزين .. فها طه حسين و العقاد و المنفلوطى ..الخ و أولئك البارودى و شوقى و حافظ و عزيز أباظة ... و غير أولئك و هؤلاء كثرة كثيرة .. و كان خطب الزعماء السياسيين و البرلمانيين آيات فى البلاغة ، و كانت مرافعات وكلاء النيابة العامة ، و دفاعات المحاميين مقطوعات تدرس بالمدارس ..
لكن المشكلة التى استعصت على الحل منذ ذاك : كيف نرقى باللغة بعد طول انحطاط ؟ كيف نعيد النظر فى طرق تدريسها و إيصال طلاوتها إلى النشء ؟
و لقد تناول هذا الموضوع مفكرون كثيرون .. أذكر منهم الدكتور طه حسين الذى أسهب فيه فى كتابه : مستقبل الثقافة فى مصر " : حيث تعمق فى بحثه فى الفصول (36 ، 37 ، 38 ، 39 ، 42 ) .. حيث يذكر أننا نتعلم العربية لأنها : " جزء مقوم لوطنيتنا لشخصيتنا القومية ، لأنها تنقل إلينا تراث آبائنا و تتلقى عنا التراث الذى ستنقله إلى الأجييال المقبلة ، ثم لأنها الأداة الطبيعية التى نصطنعها فى ليفهم بعضنا بعضا و ليعاون بعضنا بعضا .. و يواصل : إذا نحن نفكر بهذه اللغة .. فهى أداة للتفكير و الحس و الشعور و القياس ......................."
ثم يقترح طه حسين – رحمه الله – أساليب للإرتقاء بهذه اللغة .. على من يريد أن يستطلعها أن يرجع إلى هذا السفر الجليل .
و يتبادر إلى الذهن السؤال : لماذا الاهتمام باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية ؟ فتكون الإجابة إن اللغة – كما ألمحنا - مرتبطة بالحضارة ، و طالما أن الحضارة اليوم أوربية المصدر فتكون اللغات الأوربية هى سيدة الموقف .
فعلينا اللحاق بركب الحضارة فى ذات الوقت علينا بإصلاح تعليم اللغة الذى نادى به طه حسين منذ ثمان و ستين عاما ....
و استأذنكم فى إلحاق هذا المقا ل بشقيق له يتناول طرق الإصلاح .
مصطفى سلام
No comments:
Post a Comment